لا وجع يضاهى وجع فقد الوالدين للأبناء . الفقد بكل أشكاله . هذا عن البشر وربما الحيوان والطير لكنا لا نعلم منطقهم . أما عن البشر فمنا من عانى وكثيرٌ منا عايش من عانوا وسمع من الحكايات الصعيب على البشر مجرد سماعه . وفى القرآن قصتان إحداهما قصة نبى الله يوسف وأبيه يعقوب على نبينا وعليهما السلام . وسمى الله هذه القصة فى سورة يوسف ( أحسن القَصصْ ) من سورة يوسف . وكيف أن عينىَّ نبي الله يعقوب ابيضتْ من الحزن لفقد ولده .ولكم أنْ تتخيلوا حالَه وهو يشكو بثه وحُزنَهَ إلى الله .
والحكاية الثانية قصة نبى الله موسى على نبينا وعليه السلام وهو رضيع إذْ ألقته أُمُه فى اليم خوفاً عليه من فرعون (وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً ) من سورة القصص قلقاُ على رضيعها . أظنكم تتخيلون نكهة الألم بين ضلوغ الإنسان وفؤاده فى حالات الفقد .
الحارث بن عباد ومقتل ولده فى حرب البسوس
أما عن صاحب القصة والقصيدة هنا فهو سيد قومِه وأميرِهم . وهو من حكماء العرب وساداتهم . وٌلدَ وعاش وتوفى قبل الهجرة بحوالي قرن من الزمان . هو شاعر تشهد بذلك كلماته وهو حكيمُ ووفى وفارسٌ لا يشقُ له غبار.
مقتل بجير بن الحارث بن عباد
لمَّا اشتعلت حربُ البسوس بين قوم الحارث بنى بكر وبين أبناء عمومتهم بنى تغلب .اعتزل الحرب ومعه بعض قومه ، مدركاً لسفاهة القوم ،وبشاعة الحرب على الجميع .وقال قولاً صار مثلاً (هذا أمرٌ لا ناقة لنا فيه ولا جمل ) وسعى للصلح بين الحيين . ومن ضمن سعيه هذا أرسل ولده (بجير ) إلى المهلهل (االزير سالم ) اخو كليب . أرسل ولده رسولا للصلح ، ومن أعراف العرب فى الجاهلية ألا يقتلوا الرسل . ولكن المهلهل قتل بجيراً .ولم يكفِه هذا بل قال مقولةً ستظل نقيصة فى ذكره مدى الزمان .(بُؤ بشسع نعل كليب ) أى انه قتله (برباط حذاء ) كليب . كم إذن من الرجال المطلوب قتلهم حتى يستوفى المهلهل ثأر أخيه كليب .
ماذا كان رد الحارث لدى سماعه مصرع ولده
ماذا تتوقعون رد الرجل إذ فجعوه بخبر ولده . ظن الحارثُ أنَّ المهلهل إنما قتل بجيراً فداءاً لأخيه كليب . وبذلك أغلق ملفات حرب البسوس بين الحيين من وائل . فقال قولة تنم عن سمو خُلُقِه والى أى الدرجات أرتَقَى . قال الحارث :نِعم القتيل قتيلاً أصلحَ بين ابنى وائل (أى الحيين بكر وتغلب ) فقيل له بل قال ( أى المهلهل ) : بؤ بشسع نعل كليب . وهنا أذهله الخبر وصاح بقصيدته العبقرية هذه والتى يكرر فيها (قربا مربط النعامة منى )
ولعل أجود الشعر وما قالته العرب -وربما غيرهم- ما قيل لحظة ثوران الأرواح ، هنا تتوهج المشاعر وتفيض .لكن الذهول والوجع لم يُخرج الحارث عن سمته فبدأ قصيدته ببيت هو عين الحقيقة المطلقة (كل شىءٍ مصيرُه للزوال غيرَ ربى وصالحِ الأعمال )
وهنا أتوه بفرسه (النعامة ) التى لم يكن فى زمانها مثلها ولاحِظوا معى أنهم كانوا يتخذون لخيولهم وإبلهم أسماء مُعبِّرة . وهنا دخل الحرب التى سبق أن اعتزلها وفى واحدة من هذه الجولات وقع المهلهل أسيرًا بيده ولكن لم يعرفه الحارث لضعف بصره فقال له : دُلنى على عدى (وهو اسمٌ للمهلهل ) وأنا أُخلى عنك .فقال له:عليك عهدُ الله بذلك إن ْ دللتُك عليه ؟ قال: نعم . قال: فأنا عدى . فجزَ ناصيته وتركه وفاءً للعهد .
وإليكم قصيدة الحارث بن عباد عند مقتل ابنه بجير .
كلُ شىءٍ مصيره للزوال غير ربى وصالح الأعمالِ
وترى الناس ينظرون جميعاً ليس فيهم لذاكَ بعض إحتيالِ
قُلْ لأُم الأغرِ تبكى بجيراً حيلَ بين الرجالِ والأموالِ
ولعمرى لأبكينَّ بجيراً ما أتي الماءُ من رؤوس الجبالِ
لهفَ نفسي على بجيرٍإذا ما جالتِ الخيلُ يوم حربٍ عضالِ
وتساقى الكماةُ سماً نقيعًا وبدا البيضُ من قباب الحجالِ
وسعت كلُ حرةِ الوجهِ يا لبِكرٍ غراء كالتمثالِ
يابجير الخيراتِ لا صلح حتى نملأ البيد من رؤوس الجبالِ
وتقرَّ العيون بعد بكاها حين تسقى الدما صدور العوالى
أصبحت وائلٌ تعجُ من الحربِ عجيج الجمال بالأثقال
لم أكن من ُجناتِها علم الله وإنى لحرها اليوم صالِ
قد تجنبتُ وائلا كى يفيقوا فأبت تغلبٌ علىَّ إعتزالى
وأشابوا ذؤابتى ببجيرٍ قتلوه ظلماً بغير قتال
قتلوه بشسع نعل كليبٍ إنَّ قتلَ الكريمِ بالشسعِ غالى
يابنى تغلبٍ خذوا الحذرَ إنا قد شربنا بكأس موتٍ زلالِ
يابنى تغلبٍ قتلتم قتيلاً ما سمعنا بمثله فى الخوالى
قربا مربط النعامة منى لقحت حربُ وائلٍ عن حيال
قربا مربط النعامة منى ليس قولى يُراد لكن فعالى
قربا مربط النعامة منى جد نوْح النساء باالإعوالِ
قربا مربط النعامة منى شاب رأسى وأنكرتنى القوالى
قربا مربط النعامة منى للسُرى والغدو والآصالِ
قربا مربط النعامة منى طالَّ ليلِى على الليالى الطوالِ
قربا مربط النعامة منى لإعتناقِ الأبطالِ بالأ بطالِ
قربا مربط لنعامة منى واعدلا عن مقالة لجهالِ
قربا مربط النعامة منى ليس قلبى عن القتالِ بسال
قربا مربط النعامة منى كلما هبَّ ريحُ ذيل الشمالِ
قربا مربط النعامة منى لبجيرٍ مفكك الأغلالِ
قربا مربط النعامة منى لكريمٍ متوجٍٍ بالجمالِ
قربا مربط النعامة منى لا نبيع الرجال بيع النعالِ
قربا مربط النعامة منى لبجيرٍ فداهُ عمى وخالى
قرباها لحى تغلبِ شووساً لإعتناقِ الكماة يوم القتالِ
قرباها وقربا لأمتى دِرعاً دِلاصاً ترد حدَ النبال
قرباها بمرهفاتٍ حدادٍ لقراع الأبطالِ يوم النزالِ
رُبَّ جيشٍ لقيتُه يُمطر الموتَ على هيكلٍ خفيف الجِلالِ
سائِلوا كِندة الكرام وبكرًا واسألوامَذحجًا وحى هلال
إذ أتونا بعسكرٍ ذى زهاءٍ مُكفهر الأذى شديد المصالِ
فقريناه حين رامَ قِرانا كُلَّ ماضى الذبابِ عضب الصِقالِ
اترك تعليقا